Thursday, January 25, 2024

شهادة ثائر سابقاً ومهزوم حالياً

الثلاثاء ٢٥ يناير عام ٢٠١١م
دعوات النزول في الميادين لإقالة حبيب العادلي وزير الداخلية الدموي والذي ملأ السجون وأقسام الشرطة بمخالفات تربو إلى جرائم حرب. الهدوء يملأ الأجواء ولكني أعلم علم اليقين في قرارة نفسي أن هذه ليست مظاهرات بل ثورة وإنها لن تطيح فقط بحبيب العادلي بل بالطاغية رئيس الجمهورية محمد حسني مبارك الذي باع موارد الدولة ومؤسساتها وأفسد فكثر فساده وأوصل أكثر من ربع أهل مصر لدرجة من الفقر وسوء التغذية وسوء العناية الطبية التي لم تشهدها أرض مصر منذ مئات السنين.
أبلغت أبي وأمي بأنني سأذهب بعد امتحاني بالكلية إلى مظاهرة بميدان المطرية كونه الأقرب إلى كليتي. رفضت أمي الثكلى على أخي الذي قد فارقنا منذ أقل من سنة بينما سألني أبي عن أسباب المظاهرة فتركته مع صفحة تشرح مطالب وأسباب النزول بالمظاهرات وأخبرته إنني لن أذهب إن لم يقتنع بما تركته يقرأه وفي قرارة نفسي بإني سأذهب أياً كان رأيه.
خرجت من امتحاني وقابلني أحد أصدقائي يحذرني من عدم الذهاب للتظاهر وإن هذا يشكل خطر كبير على حياتي. نفس الصديق رأيته بعدها بثلاث أيام بعد صلاة الجمعة بجانبي في الثورة. هززت رأسي بإني متفهم ما يقوله ولكن هذا الأمر أكبر مني ومنه وأكبر من أمي الثكلى ومصلحتي الشخصية الضيقة.
لم يتصل بي أبي لأعود ولم أتصل به لخوفي من أن يغير رأيه ويستجيب لضغوط أمي. أخذت أقرب حافلة إلى ميدان المطرية وهناك كان صديقي من المدرسة وطالب بكلية الحقوق في وقتها في قلب الميدان داخل المظاهرة ويحاصره ومن معه الكثير من عسكر الأمن المركزي.
ترددت بأن ادخل بيدي إلى حصار غير معلوم النتيجة ويصعب الخروج منه أو ايجاد نتيجة إيجابية للمشاركة به ولكن بنفس الوقت لم أكن أنتوي تحت أى ظرف المغادرة. ذهبت إلى أحد ضباط الشرطة كي أستفسر منه لماذا يحاصرون المتظاهرون. فاجابني بتهكم إنني يمكنني الدخول ومشاركتهم إن أردت. شكرته على عرضه المغري وتمنيت له عيد شرطة سعيد وتركته وذهبت أبحث عن متظاهرين خارج الدائرة المحاصرة ووجدت كثير مثلي لم يرضوا الدخول بأيديهم إلى حصار الأمن المركزي وأحدنا قاد المظاهرة بشعارات وهتافات وبدأنا نسير في الشوارع باتجاه الاتحادية.
لم أصدق نفسي وهذه أول مظاهرة أشارك بها في حياتي ونحن نهتف ونسير إلى الاتحادية مقر حكم الطاغية حسني مبارك وغمرتني سعادة بالغة. ونحن في الطريق ويزداد عدد من في المسيرة معنا باغتنا عناصر أمن مندسة بيننا واعتقلت كل من كان معي. ذهبت وكأنني من أبناء الحارة التي كنت بها وابتعت بعض الصودا ورقائق البطاطس وسرت أبحث عن مسيرة أخرى فلم أجد.
يومها عدت إلى المنزل متعب ومجهد وأصارع نفسي وجسدي ألا أسقط مريضاً فأمامي ثورة أقسمت أن أكملها ولكن ما أن وطئت عتبة باب المنزل حتى لم أتمالك نفسي وتساقطت على الأرض أمام أختي وأخذتني الحُمّى والمرض لحظة وصولي إلى المنزل. ظللت ليلتها أبكى حالي وفشلي وعدم قدرتي على المواصلة وأنا أشاهد على التلفاز القلة الباقية ممن استجابوا لدعوات التظاهر وهم يقتحمون ميدان التحرير ومن ثم يتم مهاجمتهم واعتقالهم من قبل الأمن المركزي.
وعندها ظللت أدعو الله أن يؤجل مرضي حتى انتهاء الثورة وبالفعل في مساء يوم الخميس الموافق ٢٧ يناير وانتهائي من آخر امتحان للعام الدراسي بكليتي اجتمعت بأصدقاء المدرسة وعزمنا على الذهاب إلى جامع النور بالعباسية والانطلاق من هناك إلى ميدان التحرير.

الجمعة ٢٨ يناير عام ٢٠١١
بعد صلاة الجمعة اجتمعنا وكنا حوالي ثلاثون فرداً من الأصدقاء وزملاء الدراسة وظللنا نجتمع ونفترق مع كل ضرب نار وكل قنبلة غاز تطلق تجاهنا. وفي مرة من مرات افتراقي ممن كانوا معي، وجدت نفسي في مقدمة مسيرة وأمامي صف عساكر ببنادق مصوبة نحونا وكأننا أسرى أمام كتيبة إعدام وأدركت أن هذه النهاية لا محالة وبرضا نفس أكملت السير نحوهم ولعناية الله لم أصب بأى سوء.
سمعت حينها أذان صلاة العصر وذهبت فتوضأت وصليت العصر جماعة وبينما أنا في السجدة الأخيرة سمعت أصوات الأعيرة النارية بالقرب من المسجد وبالفعل حينما خرجت من المسجد لم أجد أى من اخواني المتظاهرين في أى مكان.
أكملت السير وحدي باتجاه ميدان التحرير حتى وجدت بعض من أصدقائي وأكملنا السير سوياً. في الطريق رأينا رجلاً يصرخ ويبكي بأنهم قتلوه، قتلوا صاحبه قناصة الداخلية. ورأينا شباب تحرق إطارات السيارات المستعملة لكي تعطي غطاءاً لنا أمام القناصة كما رأينا بضعة أفراد يجهزون زجاجات المولوتوف من محطة بنزين ملاصقة للمسيرة وبرغم دعوات السلمية، لم أجد رغبة في نفسي من منعهم من مواجهة العنف والقتل الذي نواجهه.
بعد دخولنا ميدان التحرير، احتمينا من برد الشارع بأحد المقرات لأحزاب المعارضة وبداخلها وجدنا الكثير مننا يلتقط أنفاسه بعد يوم طويل من الهتاف والثورة والتضحيات والرصاص والموت والانتصار.
وجدتني جالس بجوار أحد رموز هذا الحزب الذي لم اهتم بمعرفة اسم الحزب ولا اسم الرجل وأجريت معه حديث قصير ومقتضب مفاده سؤال واحد "لماذا لم يفعل جيلك أى شيئ لمنع مبارك من التوحش في حكمه. وكانت اجابته بابتسامة وحزن لم أفهمه سوى بعد اخماد الثورة بأنه قد حاول من قبل وقد شارك معنا اليوم.
عدنا أنا وأصدقائي وفي طريقنا رأينا لافتة بصورة حسني مبارك فوق كوبري العباسية وأقسمنا ألا نذهب إلى المنزل قبل أن نسقط تلك اللافتة مثلما اعتزمنا على إسقاط هذا النظام.
بعدما أنزلنا اللافتة ظللنا نهتف ونغني الأناشيد الوطنية طوال الطريق غير عابئين بضيق سكان المناطق السكنية المؤيدة لحكم الطاغية.

هذه شهادتي لأعظم وأنبل وأشرف عمل وطني في تاريخ مصر منذ ثورة ١٩١٩ والله على ما أقول شهيد.

لَقَدْ صَرَخَتْ فِي عُرُوقِنَا الدِّمَا
نَمُوتُ نَمُوتُ وَيَحْيَا الْوَطَنْ
إِذَا الشَّعْبُ يَوْمًا أَرَادَ الْحَيَاةْ
فَلَا بُدَّ أَنْ يَسْتَجِيبَ الْقَدَرْ
وَلَا بُدَّ لِلَّيْلِ أَنْ يَنْجَلِي
وَلَا بُدَّ لِلْقَيْدِ أَنْ يَنْكَسِرْ

No comments:

Post a Comment