Monday, March 23, 2015

مشروعية العصمة و مفهومها

تجنباً للفتنة و حيرة الدهماء من المسلمين و غير المسلمين، حرم الكثير من علماء السنة إن لم يكن جميعهم انتقاد الصحابة و أفعالهم و الاعتراف بأخطائهم فضلاً عن مشروعية دراستها و تحليلها بينما ربط هؤﻻء الصحابة الكرام بمنزلة الرسل فقد أساؤا تعريف كلمتا  "نبى" و "رسول" فأصبح الرسول التجسيد البشرى للاله عوضاً عن كونه مجرد رسول يشهد له بالأمانة و الإخلاص و تكريس حياته لرسالته. فأصبحت الرسل آلهة تقدس فى ذاتها و سبيل للتقرب من الله فانتشرت ردود فعل الدفاع عن الرسل و انتقادهم أو نصرتهم عوضا عن الدفاع عن الله أو دينه مثلما انتشر فى العالم الغربى دعاوى مكافحة معاداة السامية و معصومية الهولوكوست.

و كذا قال ابن إسحاق عن إختيار موقع معركة بدر و مناقشة أحد الصحابة لقرار الرسول فى اختياره : فحدثت عن رجال من بني سلمة ، أنهم ذكروا : أن الحباب بن المنذر بن الجموح قال : يا رسول الله ، أرأيت هذا المنزل ، أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ، ولا نتأخر عنه ، أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ قال : بل هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ فقال : يا رسول الله ، فإن هذا ليس بمنزل ، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم ، فننزله ، ثم نغور ما وراءه من القلب ، ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء ، ثم نقاتل القوم ، فنشرب ولا يشربون ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد أشرت بالرأي . فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس ، فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه ، ثم أمر بالقلب فغورت ، وبنى حوضا على القليب الذي نزل عليه ، فملئ ماء ، ثم قذفوا فيه الآنية 


وفي غزوة (أُحد) جمع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، وشاورهم في البقاء في المدينة والتحصن فيها أو الخروج لملاقاة المشركين، وكان رأي النبي صلى الله عليه وسلم البقاء في المدينة، إلا أن الكثير من الصحابة ـخاصة الذين لم يشهدوا بدراًـ أشاروا بالخروج للعدو، فنزل الرسول صلى الله عليه وسلم على رأيهم. 

هل هذا يعنى أن النبى أخطأ أم أن هناك من كان رأيه أصوب؟ و هل يرفع ذلك من عليه العصمة؟
هل عدل الرسول مع زوجاته بالتأكيد فعل أقصى ما يمكنه فى العدل بينهم فى المعاملة و لكن هل عدل بينهم فى حبه لهم أم انه فضل بعضهم على بعض؟ فبحسب بعض الروايات فقد كان الرسول يستغفر الله لميله إلى عائشة عن باقى زوجاته. و قد قال رسول الله: "اللهم إن هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك، ولا أملك" كنايةً عن حبه لعائشة أكثر من حبه لبقية نسائه.

كان دوماً تبرير استغفار الرسول هو أنه لورعه و تقواه و أنه لا ذنب له ولا خطيئة و أن هذا ما يفعله المؤمن عندما يعبد الله و هذا لا يفسر كلام الله كما هو موضح فى الآيات التالية:

وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ

 لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا

كان القرآن واضحاً فى وجود ذنوب و أوزار "مغفورة و مرفوعة" للنبى و إنه بشر يخطئ و يصيب بل و عاتبه فى بعض الآيات عن أفعاله

عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى

وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ

أليس ذلك يدل على خطأ ما قد ارتكبه الرسول المعصوم؟ تلك الآيات تدل بشكل قاطع على وجود "ذنوب" مغفورة و "أخطاء" تستحق العتاب و منها عتابه له أنه عبس فى وجه الصحابى ابن أم مكتوم و أنه قد أخفى على زيد بن حارثة و المسلمين أن زيدا سوف يطلق زوجه "زينب" و سيتزوجها الرسول من بعده و قد أخفاه فى نفسه و لم يصرح بهذا بل قال لزيد بن حارثة "أمسك عليك زوجك" وهو يدل على تخوفه من كلام الناس و من أن يكون سبب فى طلاقهم لمعرفته بمصير زيجته فعاتبه الله على ذلك.

هذه جميعاً أدلة تنزع القداسة الإلهية و الدينية عن محمد الكامل و تضع بديلاً عنها محمد البشر و تنفى ألوهية الأنبياء برمتها التى طالما كانت محل خلاف فى معتقدات و مذاهب كثيرة فى الأديان الربانية السابقة كما نزعتها عن بعض الأنبياء فى قصصهم التى وصلت إلى القتل بالخطأ كما فى قصة موسى.

وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ

فهل موسى لم تكن له العصمة كباقى الأنبياء أم أن العصمة شئ آخر غير المتوارد والمفهوم فى جمهور المسلمين؟ و أين الخط الفاصل بين عصمة الأنبياء و الرسل وبين الخطأ و الخطيئة لكونهم من نفس الكينونة البشرية التى جاء منها بقية البشر؟

و آخر أطروحة أطرحها فى هذا المقال. إن كان الرسول معصوم من كلٍ من الخطأ و الخطيئة ألا يجعله هذا أشبه بأنصاف الآلهة (Demi-gods) فى الأساطير الاغريقية؟ أو يجعله كاملاً بشكل أو بآخر؟
بحسب تعريف الكمال فإن الكمال لله وحده و هذا لا يجوز و يطرح تساؤلات فى ايمانيات جمهور المسلمين و إن كان ما يفعلونه من تعظيم لشخص النبى محمد هو تعلق دينى برمز قد وصل لدرجة العبادة أم لا.

أما الردود على تلك التساؤلات فقد اقتبستها من منتدى أهل الحديث و أنقلها لكم كما وجدتها مضاف لها مزيد من الردود على تساؤﻻت لم اطرحها و أعتذر عن وضع الرابط المباشر للموضوع لاحتوائه كثير من المعلومات الغير متعلقة بهذه الأطروحة.

--------------------------------------------

د. سلمان بن فهد العودة 


السؤال 
لقد تناقشت مع أحد الإخوة في مسألة عصمة -الرسول - صلى الله عليه وسلم-، وكان مما قلته له: إنه -صلى الله عليه وسلم - معصوم من كل زلل، وذلك الأخ- غفر الله لنا وله- أنكر عليَّ هذا، وأورد عليَّ قصته -صلى الله عليه وسلم- مع ( ابن أم مكتوم ) في (عبس وتولى). حقيقة يا شيخي لم أجد جواباً، فأسعفنا بعلمك -دلنا الله وإياك إلى سبيل الرشاد-، وأفتنا في هذا الأمر الذي أشكل علينا؟ 

الجواب 
الرسول -صلى الله عليه وسلم- معصوم فيما يبلغ عن الله؛ لقوله –تعالى-: "وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى" [النجم : 3-4].ولهذا قال –تعالى-: "ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين"، [الحاقة : 44-47]. والأدلة في هذا المعنى متوافرة متكاثرة متواترة علىأنه - صلى الله عليه وسلم- معصوم فيما يبلغ عن ربه - عز وجل-، لا يقع منه خلاف ذلك لا عمداً ولا سهواً.ولا يشكل على هذا ما ورد في قصة الغرانيق المشهورة – التي أخرجها الضياء في المختارة (247) فهو إفك مفترى، وباطل مفتعل، والكلام في سورة الحج، وبيان حقيقة معناها له موضع آخر غير هذا، ولا يشكل عليه أيضاً كونه - صلى الله عليه وسلم - ينسى الآية أحيانا،ً فإن هذا ليس نسياناً مطبقاً مطلقاً، بمعنى أنه لا يتذكرها، كلا، بل هو قد قرأهاوحفّظها أصحابه، ودونها الكُتّاب، ولكنها عزبت عنه تلك اللحظة فأسقطها، أو وقف يتذكرها، وهذه جِبلّة بشرية، ولهذا قال – تعالى-: "سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى" [الأعلى: 6-7].فهذا مما شاء الله، ومما شاء الله أن ينساه -صلى الله عليه وسلم-. ما نسخت تلاوته من آي القرآن الكريم.أما ما اجتهد فيه -صلى الله عليه وسلم- فإنه لا يقر إلا على صواب، ولذلك "عوتب في شأن الأسرى ببدر "ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض" الآية، [ الإنفال ، 67]). انظر الترمذي (3084) عن عبد ا لله بن مسعود، وأبو داود (2690) عن عبد الله بن عباس . وعوتب في شأن ابن أم مكتوم: "عبس وتولى أن جاءه الأعمى" [ عبس : 1-2]. انظر الترمذي (3331) عن عائشة.وعوتب في شأن زيد بن حارثة وزينب بنت جحش "وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه" الآية، [الأحزاب : 37]، انظر البخاري (4887) عن أنس. فكان -صلى الله عليه وسلم- يعلن ذلك لأصحابه، ويحفظه لهم، ويتلوه عليهم، ويتعبدهم بتلاوته، ولم يعبأ بمقالة اليهود والمنافقين، ولا باضطراب ضعفاء النفوس؛ لأن دين الله أعظم من ذلك كله، وهذا من أعظم كمالاته التي حلاّه الله بها، وقال :"وإنك لعلى خلق عظيم" [ القلم : 4].- فصلى الله وسلم وبارك عليه، وأدخلنا في شفاعته، وأوردنا حوضه، وارزقنا اتباعه ومحبته وإياكم وجميع المسلمين -. 
________________________________________
عصمة الرسول – صلى الله عليه وسلم - 
د.مساعد بن سليمان الطيار
السؤال 
فيما يتعلق بعصمة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، هل هو معصوم من الخطأ؟ أو معنى العصمة هنا أن الله عصمه من الناس -صلى الله عليه وسلم-، وإذا كان معصوماً من الخطأ صلوات ربي وسلامه عليه، فما هو التفسير الصحيح لحادثة الأعمى التي نزل فيها قول الله –تعالى- "عبس وتولى" وجزاكم الله خير ونفع بكم. 

الجواب 
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فإنَّ القول بأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يقع منه خطأ ، مخالف لظاهر القرآن ؛ لأن الله سبحانه ـ الذي أرسله بالحق ، وهو أعلم به ـ قد عاتبه في غير ما آية ، ولا يكون العتاب إلا بسبب وقوع خطأ منه -صلى الله عليه وسلم- وقد يستعظم بعض الناس القول بهذا، زاعمًا أن ذلك ينقص من قدر النبي -صلى الله عليه وسلم- وليس الأمر كذلك؛ فحق الله أعظم ، والإيمان بكلامه الذي نقله الرسول -صلى الله عليه وسلم- أولى من هذا الزعم، ولو كان في هذه العتابات الإلهية له ما ينقص من قدره لما ذكرها الله –سبحانه- في حقِّ خليله محمد -صلى الله عليه وسلم- والمسلم مطالب بالأخذ بظاهر القرآن ، ومن تأول مثل هذه العتابات الإلهية فإنه سيقع في التحريف والتكذيب بخبر الله –سبحانه- وقد ذكرت في كتابي "تفسير جزء عمَّ" تعليقًا على قوله –تعالى- :"وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ" [الشرح: 2 ـ 3] ما يتعلق بأمر العصمة ، وهذا نصُّه : "قال : مجاهد من طريق ابن أبي نجيح : "ذنبك"، قال قتادة من طريق سعيد ومعمر: (كانت على النبي - صلى الله عليه وسلم - ذنوب قد أثقلته، فغفرها الله له)، وكذا قال ابن زيد. وهذه مسألة تتعلق بالعصمة، وللناس فيها كلام كثير ، وأغلب الكلام فيها عقلي لا يعتمد على النصوص، وهذا النص صريح في وقوع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في شيء من الذنوب التي قد غفرها الله له ، ولكن لم يبيِّن الله نوع هذه الذنوب ، ولذا فلا تتعدى ما أجمله الله في هذه النصِّ، وقُلْ به تسلمْ .ولا تفترض مصطلحاً للعصمة من عقلك تحمل عليه أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فتدخل بذلك في التأويلات السمجة التي لا دليل عليها من الكتاب ولا السنة ؛ كما وقع من بعضهم في تأويل قوله –تعالى-: ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر [الفتح : 2 ]، قال : ما تقدم : ذنب أبيك آدم ، وما تأخر: من ذنوب أمتك، وانظر الشبه بين هذا القول وبين قول النصارى في الخطيئة، فالله يقول: "ليغفر الله لك ما تقدم من ذنبك"، وهذا يقول هو ذنب غيره ! والله المستعان". واعلم أنَّ في الرسول جانبان : جانب بشري ، وجانب نبوي، أمّا الجانب البشري فهو فيه كالبشر: يحب ويكره ، ويرضى ويغضب ، ويأكل ويشرب، ويقوم وينام … إلخ، مع ما ميَّزه الله به في هذا الجانب في بعض الأشياء؛ كسلامة الصدر ، والقوة في النكاح، وعدم نوم القلب، وغيرها من الخصوصات التي تتعلق بالجانب البشري. ومن هذا الجانب قد يقع من النبي – صلى الله عليه وسلم - بعض الأخطاء التي يعاتبه الله عليها، ولك أن تنظر في جملة المعاتبات الإلهية للنبي – صلى الله عليه وسلم - ؛ كعتابه بشأن أسرى بدر، وعتابه بشأن زواجه من زينب – رضي الله عنها -، وعتابه في عبد الله بن أم مكتوم – رضي الله عنه - ، وغيرها ، وقد نصَّ الله على هذا الجانب في الرسل جميعهم صلوات الله وسلامه عليهم ، ومن الآيات في ذلك : "قل سبحان ربي هل كنت إلاَّ بشراً رسولاً " [الإسراء : 93]، ومن الأحاديث قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وأقضي له على نحو ما أسمع، من حق له أخيه شيئاً، فلا يأخذ، فإنما أقطع له من النار" (رواه البخاري (6967)، ومسلم (1713)من حديث أم سلمة –رضي الله عنها-. وتكمن العصمة في هذا الجانب في أنَّ الله يُنبِّه نبيه – صلى الله عليه وسلم - على ما وقع منه من خطأ ، وهذا ما لا يتأتَّى لأحد من البشر غيره ، فتأمله فإنه من جوانب العصمة المُغفلة . وأما الجانب النبوي، وهو جانب التبليغ ، فإنه لم يرد البتة أنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم - خالف فيه أمر الله ؛ كأن يقول الله له: قل لعبادي يفعلوا كذا فلا يقول لهم ، أو يقول لهم خلاف هذا الأمر، وهذا لو وقع فإنه مخالف للنبوة، ولذا لما سُحِرَ النبي – صلى الله عليه وسلم - لم يُؤثِّر هذا السِّحْرُ في الجانب النبوي ، بل أثَّر في الجانب البشري انظر ما رواه البخاري (3268)، ومسلم (2189) من حديث عائشة – رضي الله عنها-، ومن ثَمَّ فجانب التبليغ في النبي – صلى الله عليه وسلم - معصوم ، ويدل على هذا الجانب قوله تعالى : "وما ينطق عن الهوى، إن هو إلاَّ وحي يوحى" [النجم: 3-4] الله أعلم.

----------------------------------------

(2) حول عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم وموقف القرآن من العصمة
أ.د محمود حمدي زقزوق
هناك من لا يعترفون بأن الرسول معصوم عن الخطأ ، ويقدمون الأدلة على ذلك بسورة [عبس وتولى] وكذلك عندما جامل الرسول صلى الله عليه وسلم زوجاته، ونزلت الآية الكريمة التي تنهاه عن ذلك (انتهى).
الرد على الشبهة:
إن عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك عصمة كل الرسل - عليهم السلام - يجب أن تفهم في نطاق مكانة الرسول.. ومهمة الرسالة.. فالرسول: بشر يُوحَى إليه.. أي أنه - مع بشريته - له خصوصية الاتصال بالسماء ، بواسطة الوحي.. ولذلك فإن هذه المهمة تقتضى صفات يصنعها الله على عينه فيمن يصطفيه ، كي تكون هناك مناسبة بين هذه الصفات وبين هذه المكانة والمهام الخاصة الموكولة إلى صاحبها.
والرسول مكلف بتبليغ الرسالة، والدعوة إليها، والجهاد في سبيل إقامتها وتطبيقها.. وله على الناس طاعة هي جزء من طاعة الله - سبحانه وتعالى-(أطيعوا الله وأطيعوا الرسول), (قل أطيعوا الله والرسول), (من يطع الرسول فقد أطاع الله), (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)، ولذلك كانت عصمة الرسل فيما يبلغونه عن الله ضرورة من ضرورات صدقهم والثقة في هذا البلاغ الإلهي الذي اختيروا ليقوموا به بين الناس.. وبداهة العقل - فضلاً عن النقل - تحكم بأن مُرْسِل الرسالة إذا لم يتخير الرسول الذي يضفى الصدق على رسالته ، كان عابثًا.. وهو ما يستحيل على الله، الذي يصطفى من الناس رسلاً تؤهلهم العصمة لإضفاء الثقة والصدق على البلاغ الإلهي.. والحُجة على الناس بصدق هذا الذي يبلغون.
وفى التعبير عن إجماع الأمة على ضرورة العصمة للرسول فيما يبلغ عن الله، يقول الشيخ محمد عبده عن عصمة الرسل - كل الرسل-: "... ومن لوازم ذلك بالضرورة: وجوب الاعتقاد بعلو فطرتهم، وصحة عقولهم، وصدقهم في أقوالهم، وأمانتهم في تبليغ ما عهد إليهم أن يبلغوه، وعصمتهم من كل ما يشوه السيرة البشرية، وسلامة أبدانهم مما تنبو عنه الأبصار وتنفر منه الأذواق السليمة، وأنهم منزهون عما يضاد شيئًا من هذه الصفات، وأن أرواحهم ممدودة من الجلال الإلهي بما لا يمكن معه لنفس إنسانية أن تسطو عليها سطوة روحانية.. إن من حكمة الصانع الحكيم - الذي أقام الإنسان على قاعدة الإرشاد والتعليم - أن يجعل من مراتب الأنفس البشرية مرتبة يُعدُّ لها، بمحض فضله، بعض مَنْ يصطفيه من خلقه، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، يميزهم بالفطرة السليمة، ويبلغ بأرواحهم من الكمال ما يليقون معه للاستشراق بأنوار علمه، والأمانة على مكنون سره، مما لو انكشف لغيرهم انكشافه لهم لفاضت له نفسه، أو ذهبت بعقله جلالته وعظمته، فيشرفون على الغيب بإذنه، ويعلمون ما سيكون من شأن الناس فيه ، ويكونون في مراتبهم العلوية على نسبة من العالمين، نهاية الشاهد وبداية الغائب ، فهم في الدنيا كأنهم ليسو من أهلها ، هم وفد الآخرة في لباس من ليس من سكانها.. أما فيما عدا ذلك - [أي الاتصال بالسماء والتبليغ عنها] - فهم بشر يعتريهم ما يعترى سائر أفراده ، يأكلون ويشربون وينامون ويسهون وينسون فيما لا علاقة له بتبليغ الأحكام ، ويمرضون وتمتد إليهم أيدي الظلمة ، وينالهم الاضطهاد ، وقد يقتلون".
فالعصمة - كالمعجزة - ضرورة من ضرورات صدق الرسالة ، ومن مقتضيات حكمة من أرسل الرسل - عليهم السلام -..
وإذا كان الرسول - كبشر - يجوز على جسده ما يجوز على أجساد البشر.. وإذا كان الرسول كمجتهد قد كان يمارس الاجتهاد والشورى وإعمال العقل والفكر والاختيار بين البدائل في مناطق وميادين الاجتهاد التي لم ينزل فيها وحى إلهي.. فإنه معصوم في مناطق وميادين التبليغ عن الله - سبحانه وتعالى - لأنه لو جاز عليه الخطأ أو السهو أو مجانبة الحق والصواب أو اختيار غير الأولى في مناطق وميادين التبليغ عن الله لتطرق الشك إلى صلب الرسالة والوحي والبلاغ ، بل وإلى حكمة من اصطفاه وأرسله ليكون حُجة على الناس.. كذلك كانت العصمة صفة أصيلة وشرطًا ضروريًا من شروط رسالة جميع الرسل - عليهم السلام -.. فالرسول في هذا النطاق - نطاق التبليغ عن الله - (وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحى يوحى). وبلاغة ما هو بقول بشر، ولذلك كانت طاعته فيه طاعة لله، وبغير العصمة لا يتأتى له هذا المقام.
أما اجتهادات الرسول صلى الله عليه وسلم فيما لا وحى فيه، والتي هي ثمرة لإعماله لعقله وقدراته وملكاته البشرية، فلقد كانت تصادف الصواب والأولى ، كما كان يجوز عليها غير ذلك.. ومن هنا رأينا كيف كان الصحابة، رضوان الله عليهم في كثير من المواطن وبإزاء كثير من مواقف وقرارات وآراء واجتهادات الرسول صلى الله عليه وسلم يسألونه - قبل الإدلاء بمساهماتهم في الرأي - هذا السؤال الذي شاع في السُّنة والسيرة:
"يا رسول الله، أهو الوحي؟ أم الرأي والمشورة؟.." فإن قال: إنه الوحي. كان منهم السمع والطاعة له ، لأن طاعته هنا هي طاعة لله.. وهم يسلمون الوجه لله حتى ولو خفيت الحكمة من هذا الأمر عن عقولهم، لأن علم الله - مصدر الوحي - مطلق وكلى ومحيط، بينما علمهم نسبى، قد تخفى عليه الحكمة التي لا يعلمها إلا الله.. أما إن قال لهم الرسول - جوابًا عن سؤالهم -: إنه الرأي والمشورة.. فإنهم يجتهدون ، ويشيرون ، ويصوبون.. لأنه صلى الله عليه وسلم هنا ليس معصومًا ، وإنما هو واحد من المقدمين في الشورى والاجتهاد.. ووقائع نزوله عن اجتهاده إلى اجتهادات الصحابة كثيرة ومتناثرة في كتب السنة ومصادر السيرة النبوية - في مكان القتال يوم غزوة بدر.. وفى الموقف من أسراها.. وفى مكان القتال يوم موقعة أُحد.. وفى مصالحة بعض الأحزاب يوم الخندق.. إلخ.. إلخ.
ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أراد الله له أن يكون القدوة والأسوة للأمة: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا).
وحتى لا يقتدي الناس باجتهاد نبوي لم يصادف الأولى، كان نزول الوحي لتصويب اجتهاداته التي لم تصادف الأولى، بل وعتابه - أحيانًا - على بعض هذه الاجتهادات والاختيارات من مثل: (عبس وتولى * أن جاءه الأعمى * وما يدريك لعله يزكى * أو يذكر فتنفعه الذكرى * أما من استغنى * فأنت له تصدى * وما عليك ألا يزكى * وأما من جاءك يسعى * وهو يخشى * فأنت عنه تلهى). ومن مثل: (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغى مرضاة أزواجك والله غفور رحيم * قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم * وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثًا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرّف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير). ومن مثل: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم * لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم).
وغيرها من مواطن التصويب الإلهي للاجتهادات النبوية فيما لم يسبق فيه وحى، وذلك حتى لا يتأسى الناس بهذه الاجتهادات المخالفة للأولى.
فالعصمة للرسول صلى الله عليه وسلم ، فيما يبلغ عن الله شرط لازم لتحقيق الصدق والثقة في البلاغ الإلهي، وبدونها لا يكون هناك فارق بين الرسول وغيره من الحكماء والمصلحين، ومن ثم لا يكون هناك فارق بين الوحي المعصوم والمعجز وبين الفلسفات والإبداعات البشرية التي يجوز عليها الخطأ والصواب.. فبدون العصمة تصبح الرسالة والوحي والبلاغ قول بشر، بينما هي - بالعصمة - قول الله - سبحانه وتعالى - الذي بلغه وبينه المعصوم - عليه الصلاة والسلام -.. فعصمة المُبَلِّغ هي الشرط لعصمة البلاغ.. بل إنها - أيضًا - الشرط لنفى العبث وثبوت الحكمة لمن اصطفى الرسول وبعثه وأوحى إليه بهذا البلاغ.